كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ضرب اللّه لهم قبل هذا مثلا فيه هذا المعنى بعينه، فقال: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264].
يريد سبحانه: أنه محق كسبهم، فلم يقدروا عليه حين حاجتهم إليه، كما أذهب المطر التراب عن الصّفا، ولم يوافق في الصّفا منبتا.
ثم ضرب مثلا للمخلصين، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265] أي: تحقيقا من أنفسهم، فقال: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} وأحسن ما تكون الجنان والرّياض: على الرّبا، أَصابَها وابِلٌ وهو: أشدّ المطر، فأضعفت في الحمل، ثم قال: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] أي: أصابها طلّ، وهو: أضعف المطر. فتلك حالها في النّزل وتضاعف الثمر، لا ينقص بالطّل عن مقدارها بالوابل.
في سورة الرعد: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)} [الرعد: 17].
هذا مثل ضربه اللّه للحق والباطل. يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن اللّه سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، ومثل ذلك مطر جود، أسال الأودية بقدرها: الكبير على قدره، والصغير على قدره.
{فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا} أي: عاليا على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق، ومن جواهر الأرض التي تدخل الكير ويوقد عليها. يعني الذهب والفضة للحلية، والشّبه والحديد للآلة، حيث يعلوها مثل زبد الماء.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً} أي: يلقيه الماء عنه فيتعلّق بأصول الشّجر وبجنبات الوادي، وكذلك خبث الفلزّ يقذفه الكير. فهذا مثل الباطل.
{وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الماء الذي يَنْفَعُ النَّاسَ وينبت المرعى فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وكذلك الصّفو من الفلزّ يبقى خالصا لا شوب فيه. فهو مثل الحق.
في سورة النور قول اللّه عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 35، 40].
هذا مثل ضربه اللّه لقلب المؤمن، وما أودعه بالإيمان والقرآن من نوره فيه. فبدأ فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، أي بنوره يهتدي من في السموات والأرض.
ثم قال: {مَثَلُ نُورِهِ}، يعني في قلب المؤمن. كذلك قال المفسّرون. وكان أبيّ يقرأ: {الله نور السموات والأرض مثل نور المؤمن}، روى ذلك عبيد اللّه بن موسى، عن أبي جعفر الرّازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية.
{كَمِشْكاةٍ}، وهي: الكوّة غير النافذة.
{فِيها مِصْباحٌ}، أي سراج الْمِصْباحُ في قنديل، القنديل كأنه من شدة بياضه وتلألئه، {كوكب درّي}، يتوقّد ذلك المصباح بزيت {من شجرة لا شَرْقِيَّةٍ}، أي لا بارزة للشمس كلّ النهار {وَلا غَرْبِيَّةٍ} لا مستترة في الظلّ كلّ النهار. ولكنها شرقية غربية تصيبها الشمس في بعض النهار، والظلّ في بعض النهار. وإذا كان كذلك فهو أنضر لها، وأجود لحملها، وأكثر لنزلها، وأصفى لدهنها. {يَكادُ زَيْتُها يُضِي} ءُ وَلَوْ لَمْ يسرج به من شدة صفائه. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {نُورٌ عَلى نُورٍ}، يعني نور المصباح على نور الزّجاجة والدّهن، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} ثم قال: هذا المصباح {فِي بُيُوتٍ}، يعني المساجد. وذكر أهلها فقال: {يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ}، يريد أن القلوب يوم القيامة تعرف أمره يقينا فتتقلّب عما كانت عليه من الشك والكفر، وأن الأبصار يومئذ ترى ما كانت مغطّاة عنه فتتقلّب عمّا كانت عليه. ونحوه قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق: 22].
ثم ضرب مثلا للكافرين، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً أي كالسراب يحسبه العطشان من البعد ماء يرويه حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.
كذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله نافعه، حتى إذا جاءه، أي مات، لم يجد عمله شيئا، لأنّ اللّه، عزّ وجلّ، قد أبطله بالكفر ومحقه، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، أي عند عمله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ.
ثم ضرب مثلا آخر، فقال: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ} يريد: أنه في حيرة من كفره كهذه الظلمات.
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} في قلبه، {فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
في سورة سبأ: {وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)} [سبأ: 51، 54].
كان الحسن- رضي اللّه عنه- يجعل الفزع يوم القيامة إذا بعثوا من القبور. يقول: ولو ترى يا محمد فزعهم حين لا فوت، أي لا مهرب ولا ملجأ يفوتون به ويلجأون إليه. وهذا نحو قوله: {فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} [ص: 3]، أي نادوا حين لا مهرب.
{وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ}، يعني القبور.
{وَقالُوا آمَنَّا بِهِ}، أي بمحمد، صلى اللّه عليه.
{وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ} والتناوش: التناول، أي كيف لهم بنيل ما يطلبون من الإيمان في هذا الوقت الذي لا يقال فيه كافر ولا تقبل توبته؟.
وقوله: {مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} يريد بعد ما بين مكانهم يوم القيامة، وبين المكان الذي تتقبّل فيه الأعمال.
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}، أي بمحمد، صلّى اللّه عليه وسلم. يقول: كيف ينفعهم الإيمان به في الآخرة وقد كفروا به في الدنيا؟.
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ}، أي بالظنّ أن التوبة تنفعهم.
{مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}، أي بعيد من موضع تقبّل التوبة.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ} من الإيمان. {كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ}، أي بأشباههم من الأمم الخالية.
وكان غير الحسن يجعل الفزع عند نزول بأس اللّه من الموت أو غيره، ويعتبره بقوله في موضع آخر: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)} [غافر: 84، 85].
في سورة النور: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا} [النور: 61].
كان المسلمون في صدر الإسلام حين أمروا بالنصيحة ونهوا عن الخيانة وأنزل عليهم: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} [البقرة: 188]. أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق- أدقّوا النظر وأفرطوا في التوقّي، وترك بعضهم مؤاكلة بعض، فكان الأعمى لا يؤاكل الناس، لأنه لا يبصر الطعام فيخاف أن يستأثر، ولا يؤاكله الناس يخافون لضرره أن يقصر. وكان الأعرج يتوقّى ذلك، لأنه يحتاج لزمانته إلى أن يتفسّح في مجلسه، ويأخذ أكثر من موضعه، ويخاف الناس أن يسبقوه لضعفه. وكان المريض يخاف أن يفسد على الناس طعامهم بأمور قد تعتري مع المرض من رائحة تتغيّر، أو جرح يبضّ، أو أنف يذنّ، أو بول يسلس، وأشباه ذلك. فأنزل اللّه تبارك وتعالى: ليس على هؤلاء جناح في مؤاكلة الناس، وهو معنى قول ابن عباس في رواية أبي صالح.
وأما عائشة رضي اللّه عنها، فإنها قالت: كان المسلمون يوعبون مع رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم، في المغازي، ويدفعون مفاتيحهم إلى الضّمنى، وهم الزّمنى، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في منازلنا. فكانوا يتوقّون أن يأكلوا من منازلهم حتى نزلت هذه الآية.
وإلى هذا يذهب قوم، منهم الزّهري. ثم قال اللّه عز وجل: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} أراد: ولا عليكم أنفسكم أن تأكلوا من أموال عيالكم وأزواجكم.
وقال بعضهم: أراد: أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الأولاد كسبهم، وأموالهم كأموالهم. يدلك على هذا: أن الناس لا يتوقّون أن يأكلوا من بيوتهم، وأن اللّه سبحانه عدّد القرابات وهم أبعد نسبا من الولد، ولم يذكر الولد.
وقال المفسرون في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ} [المسد: 1، 2]. أراد: ما أغنى عنه ماله وولده، فجعل الولد كسبا.
ثم قال: {أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ يريد إخوتكم أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ} يعني العبيد، لأن السيد يملك منزل عبده. هذا على تأويل ابن عباس.
وقال غيره: أو ما خزنتموه لغيركم. يريد الزّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا} من منازل هؤلاء إذا دخلتموها، وإن لم يحضروا ولم يعلموا، من غير أن تتزوّدوا وتحملوا، ولا جناح عليكم أن تأكلوا جميعا أو فرادى، وإن اختلفتم: فكان فيكم الزّهيد، والرّغيب، والصحيح، والعليل. وهذا من رخصته للقرابات وذوي الأواصر- كرخصته في الغرباء والأباعد لمن دخل حائطا وهو جائع: أن يصيب من ثمره، أو مرّ في سفر بغنم وهو عطشان: أن يشرب من رسلها، وكما أوجب للمسافر على من مرّ به الضيافة، توسعة منه ولطفا بعباده، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق، وضيق النظر.
في سورة الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 76- 79].
كان العصر الذي بعث اللّه، عز وجل، فيه إبراهيم، صلّى اللّه عليه وسلم، عصر نجوم وكهانة، وإنما أمر نمروذ بقتل الولدان في السنة التي ولد فيها إبراهيم، صلّى اللّه عليه وسلم، لأن المنجمين والكهّان قالوا: إنه يولد في تلك السنة من يدعو إلى غير دينه، ويرغب عن سنّته. وكان القوم يعظّمون النجوم، ويقضون بها على غائب الأمور، ولذلك نظر إبراهيم نظرة في النجوم فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وكان القوم يريدون الخروج إلى مجمع لهم، فأرادوه على أن يغدو معهم، وأراد كيد أصنامهم خلاف مخرجهم، فنظر نظرة في النجوم، يريد علم النجوم، أي في مقياس من مقاييسها، أو سبب من أسبابها، ولم ينظر إلى النجوم أنفسها. يدلك على ذلك قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)} [الصافات: 88] ولم يقل: إلى النجوم. وهذا كما يقال: فلان ينظر في النجوم، إذا كان يعرف حسابها، وفلان ينظر في الفقه والحساب والنحو.
وإنما أراد بالنظر فيها: أن يوهمهم أنه يعلم منها ما يعلمون، ويتعرف في الأمور من حيث يتعرفون، وذلك أبلغ في المحال، وألطف في المكيدة فَقال: {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 89] أي سأسقم فلا أقدر على الغدوّ معكم. هذا الذي أوهمهم بمعاريض الكلام، ونيّته أنه سقيم غدا لا محالة، لأن من كانت غايته الموت ومصيره إلى الفناء- فسيسقم. ومثله قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30] ولم يكن النبي، صلّى اللّه عليه وسلم، ميّتا في ذلك الوقت، وإنما أراد: أنك ستموت وسيموتون.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} رَأى الزّهرة قالَ هذا رَبِّي يريد: أن يستدرجهم بهذا القول، ويعرّفهم خطأهم، وجهلهم في تعظيمهم شأن النجوم، وقضائهم على الأمور بدلالتها. فأراهم أنه معظّم ما عظّموا، وملتمس الهدى من حيث التمسوا. وكلّ من تابعك على هواك وشابعك على أمرك، كنت به أوثق، وإليه أسكن وأركن. فأنسوا واطمأنوا.
فَلَمَّا أَفَلَ أراهم النقص الداخل على النجم بالأفول، لأنه ليس ينبغي لإله أن يزول ولا أن يغيب، ف قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ واعتبر مثل ذلك في الشمس والقمر، حتى تبين للقوم ما أراد، من غير جهة العناد والمبادأة بالتّنقص والعيب.
ثم قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ} وما فيها من نجم وقمر وشمس {وَالْأَرْضَ} وما فيها من بحر وجبل وحجر وصنم {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ومثل هذا: الحواريّ حين ورد على قوم يعبدون (بدّا) لهم فأظهر تعظيمه وترفيله، وأراهم الاجتهاد في دينهم، فأكرموه وفضّلوه وائتمنوه، وصدروا في كثير من الأمور عن رأيه. إلى أن دهمهم عدوّ لهم خافه الملك على مملكته، فشاور الحواريّ في أمره، فقال: الرأي أن ندعو إلهنا- يعني البدّ- حتى يكشف ما قد أظلّنا، فإنا لمثل هذا اليوم كنّا نرشّحه. فاستكفّوا حوله يتضرّعون إليه ويجأرون، وأمر عدوّهم يستفحل، وشوكته تشتد يوما بعد يوم. فلما تبين لهم من هذه الجهة أن (بدّهم) لا ينفع ولا يدفع، ولا يبصر ولا يسمع، قال: هاهنا إله آخر، أدعوه فيستجيب، وأستجيره فيجير، فهلموا فلندعه. فدعوا اللّه جميعا فصرف عنهم ما كانوا يحاذرون، وأسلموا.
ومن الناس من يذهب إلى أن إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلم، كان في تلك الحال على ضلال وحيرة.
وكيف يتوهّم ذلك على من عصمه اللّه وطهّره في مستقرّه ومستودعه؟ واللّه سبحانه يقول: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} [الصافات: 84]. أي: لم يشرك به قط، كذلك قال المفسرون، أو من قال منهم.
ويقول في صدر الآية: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: 75] ثم قال على أثر ذلك: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام: 76].
فروي: أنه رأى في الملكوت عبدا على فاحشة فدعا اللّه عليه، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا اللّه عليه، فقال له اللّه: (يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي، فإن عبدي بين خلال ثلاث: إما أن أخرج منه ذرّية طيّبة، أو يتوب فأغفر له، أو النار من ورائه).
أفترى اللّه أراه الملكوت ليوقن، فلما أيقن رأى كوكبا فقال: هذا ربي على الحقيقة والاعتقاد؟!.